بلادٌ ألفناها على كل حالة
وقد يُؤْلَفُ الشيء الذي ليس بالحَسنْ
وتُسْتعذب الأرض التي لا هواء بها
ولا ماؤها عذبٌ ، ولكنها وَطَنْ
تدور علينا الدوائر، وتشتد علينا المحن، ونرى من أهوال الحياة ما يجعل الحليم حيرانًا والعاقل سكرانًا، يلاحقنا الخوف أينما ذهبنا وارتحلنا ينمو كل يوم بين أضلعنا، حتى استوطن في نفوسنا، يستمد وجوده من عوادي الزمن وحادثات الليالي ، وشرر الإرهاب الأسود، حتى تهيأت له تربة صالحة لتنموا جذوره فينا وتترعرع أوراقه حولنا، فحجبت عنا شمس الدفء والأمان بحياتنا ،ومع كل ما نعيشه من أزمات ونكبات يظل الأمل معقود في نواصي أحلامنا، نحمله معنا أينما ذهبنا، نستمد منه الرجاء والبقاء والقدرة على مواصلة الحياة، فلولا الأمل ما تهنّى أحد بالحياة، ولا طابت نفسه أن يشرع في أي عمل من أعمال الدنيا، فمن دونه لا طعم لها، ولا قدرة على مواصلة العيّش فيها .
” أُعلل النفس بالآمال أرقُبُها ..ما أضيق العيش لولا فسحةُ الآملِ”
آلام الوطن هي آلامنا تحذ فينا، وتترك جراحا غائرة بداخلنا، لا تلتئم عبر مرور الزمن، فالوطن هو الحضن الدافئ الذي يحنوا علينا دون كلل أو ملل، يظلنا بسمائه الظليلة، ويطعمنا من أرضه الذليلة، وفى خيراته منعّمين وسلوى نعمه مُترفين، دون أن يطلب منا أجرا غير قلب حنون، يرأف بحاله ويكف عن هدمه وإفساده، بعدما شاخ وكثرت تجاعيده، وأصبح على شفا الانهيار من الدمار والاندثار، فليس بعد ضياع الوطن من عوض، فهلّا رفقنا به وراعينا حقه؟
فماذا قدمنا للوطن ؟ فعلى قدر ما حبانا من نعم، لم يجن منا سوى النقم، نغتاله دون رحمه! يصرخ في صمت ولا أحد يسمعه، ينادى علينا من مكان بعيد أنقذوني واحفظوا ما تبقى منى، فقد تحولت الى بقايا وطن ! ينادى ولا أحد يستجيب، يصرخ ولا أحد يسمع، فما أشد محنتنا وطول غربتنا في ظلمات التشرد والضياع، هانت علينا الأوطان ففقدنا الحب والأمان، وضاقت بنا السبل ولم نجن غير الخسران، فمن يداوى الوطن؟ من يصلح ما تلفه العابثون المُغّرضون ؟ من تاجروا به فهبطت قيمته في سوق الأمم، فهل هناك بعد الوطن قيمه نُعلى من شأنها ونحافظ عليها، وهل يرخص سعر الإنسان وتضيع كرامته في دنيا الناس إلا بعد ضياع وطنه، لم أجد ما أوفيك به قدرك يا وطني ،فقد باعوك بثمن بخس وقبضوا الربح خسة ودناءه، فمن باع وطنه خسر ولو امتلك ملء الأرض ذهبا، إن الوطن كجلد الإنسان متى انسلخ عنه مات .
فمتى تنكشف الغمة عن الأوطان ؟ أما آن لهذا الليل أن ينجلي ويُشرق فجر الأمل فينا، وتتنفس بلادنا هواء الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية ،أصبحنا شراذم الأمم مشتتين في كل البلاد، نازحين بلا هوية، خرجنا من بلادنا غرباء لنعيش في بلاد أشد غربة ،فمتى يعود الغائب والشريد ،متى تتحطم أصنام الحكم وأوثان العبيد ،غدت الديار خاوية على عروشها تسكنها الوحشة والدمار ولا صوت فيها غير صوت الظلم والدمار، أبنية تتهاوى كل يوم وأجساد صغيرة تحت الأنقاض ،ونفوس مكبلة بأغلال الاستعباد والذل، ونفوس أخرى مكبلة بأغلال الرضا بالظلم وتأييده والرقص على دماء ضحاياه ،نعيش عصر الانحطاط والحيرة والسادية، لا تعرف لماذا قتلت ولماذا قُتلت، كل ما تعرفه أنهم قالوا لك اُقتل فقتلت، اجلد فجلدت، اقذف فقذفت، وراح ضحية جهلك نفوس بريئة صارت دمائها في رقبتك.
أوطان تحولت إلى كهوف حجرية، تحكمها ذئاب بشرية وجماهير تسبّح لهم بكرة وعشيّا، عاش الملك المخلص عاش الفاتح العظيم، عاش نائب الله في الأرض عاش ولىّ النعم، عاش الملك الإله ..ثم يموت الملك ليسلّمنا إلى ملك أخر بنفس السيناريو والمشاهد والإخراج والممثلون، ولم يتغير غير الغلاف، لكن المضمون كما هو والعناوين كما هي، عاش الملك مات الملك والناس تصفق وترقص؟ وهكذا تستمر القصة بفصولها الهزلية المتشابهة، ويستمر العرض على مسرح الوطن، وتُسدل الستار وتغادر الجماهير وهى لا تعرف لماذا كانت تصفق وتهتف !
وصدق حافظ ابراهيم حين قال :
لم يبق شيء من الدنيا بأيدينا
إلا بقية دمع في مآقينا
كانت منازلنا في العز شامخة
لا تشرق الشمس إلا في مغانينا
فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا
شزرا وتخدعنا الدنيا وتلهينا
حتى غدونا ولا جاه ولا نسب
ولا صديق ولا خل يواسينا